0 Comments

رمضان ليس مجرد شهر في التقويم، بل هو نفحة إيمانية، وفرصة روحية يتجدد فيها العهد مع الله، وتصفو القلوب من أدران الدنيا. إنه شهر تصفو فيه الأرواح، وتزكو فيه النفوس، ويتقرّب العبد فيه إلى ربه زلفى بالصيام والقيام، والذكر والقرآن. ولكن استقبال هذا الضيف الكريم لا يكون مجرد لحظة تبدأ برؤية الهلال، بل هو استعداد يبدأ من القلب، وتجهيز يمتد إلى الروح والجوارح، فكيف يهيئ المؤمن نفسه لهذا الموسم العظيم ؟

أولًا: توبة تمهّد الطريق للنور

تهيئة القلوب لشهر رمضان

إنّ من أَولى خُطوات الاستعداد لشهر رمضان أن يُقبِل العبد على الله بتوبة صادقة، فهي الباب الواسع الذي يدخل منه النور إلى القلب، والنافذة التي تطل منها الروح على عفو الله وكرمه. كان الصحابي الجليل كعب بن مالك – رضي الله عنه – حين تخلف عن غزوة تبوك وشعر بمرارة الذنب، لم يجد سبيلاً للخلاص إلا بالاعتراف والصدق مع الله، فما كان من الله إلا أن أنزل توبته في كتابه الكريم، ليكون ذلك درسًا خالدًا في كيفيّة تصفية القلوب قبل مواسم الخير.

فإذا أراد العبد أن يستقبل رمضان استقبالًا صحيحًا، فعليه أن يُجري مراجعة قلبية صادقة، فيقف مع نفسه وقفة تأمل: ما الذنوب التي تحول بيني وبين لذة القرب من الله؟ وما العوائق التي تمنع نور الإيمان من النفاذ إلى قلبي؟ فإن صَفَت النفوس من أثقال الذنوب، أشرقت بأنوار الطاعة.

ثانيًا: تهيئة القلب بالنية الصادقة والعزيمة القوية

النية هي المفتاح الذي يفتح للعبد أبواب البركة في رمضان، فإن كان القلب مشتتًا، والروح منشغلة بالدنيا، دخل عليه رمضان وخرج وهو لم يظفر إلا بالجوع والعطش. لهذا كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يتهيّأون لرمضان قبل أشهر، ويدعون الله أن يبلغهم إياه، ثم يدعونه بعد انقضائه أن يتقبله منهم.

كان عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – معروفًا بشدة حرصه على الطاعة، فإذا دخل رمضان، وجدته يكثر من تلاوة القرآن والبكاء بين يدي الله، وكأنه يرى أبواب السماء مفتوحة، فلا يدع لحظةً تفوته دون أن يتزود منها. فهكذا تكون العزيمة الصادقة، وهكذا يكون الاستعداد الحقيقي لشهر الرحمة والمغفرة.

ثالثًا: تزكية النفس بالقرآن

إن شهر رمضان هو شهر القرآن، فكما نزل الوحي على النبي ﷺ في غار حراء في هذا الشهر، كذلك ينبغي أن تنزل أنوار القرآن على القلوب المتلهفة. وكان الصحابة يدركون ذلك جيدًا، فكان عثمان بن عفان – رضي الله عنه – يختم القرآن في رمضان كل ليلة، وكان الإمام الشافعي – رحمه الله – يختمه ستين مرة في الشهر، إدراكًا لعظمة هذا الموسم.

فمن أراد أن يذوق حلاوة رمضان، فعليه أن يبدأ علاقته بالقرآن قبل أن يهلّ الهلال، فيعود لسانه على التلاوة، ويعوّد قلبه على التدبر، حتى إذا دخل الشهر، كان مستعدًا لقطف ثماره.

رابعًا: تصفية القلب من الأحقاد والضغائن

كيف يستقبل العبد رمضان، وهو يحمل في قلبه ضغينة على أخيه، أو خصومة مع قريبه؟ إن القلب الذي يسكنه الغلّ لا يجد لذة القرب من الله، ولهذا قال النبي ﷺ: “تُعرض الأعمال على الله كل اثنين وخميس، فيُغفر لكل عبدٍ لا يُشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا.” (رواه مسلم).

كان الصحابي الجليل أبو الدرداء – رضي الله عنه – يقول: “إني لأدعو لأربعين من إخواني في صلاتي، باسمائهم، كي لا يبقى في قلبي شيء على أحد.” فهكذا كانت قلوب الصحابة، بيضاء نقية، لا تشغلها الأحقاد، بل تنشغل بالله وحده.

خامسًا: تدريب الجوارح على الطاعة

رمضان ليس محطة مفاجئة، بل هو موسم يحتاج إلى تهيئة، كما يتهيأ العابد للقاء محبوبه، فيزيد في نوافله، ويتدرب على الصيام، ويعوّد لسانه على الذكر. لهذا كان النبي ﷺ يكثر من الصيام في شعبان، حتى ظنّ الصحابة أنه لا يفطر، وكان يقول: “ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم.” (رواه النسائي).

فمن أراد أن يذوق حلاوة القيام في رمضان، فليبدأ من الآن بركعات في جوف الليل، ومن أراد أن يعتاد الصيام، فليكثر من النوافل، حتى يدخل رمضان وقد أصبح قلبه مشتاقًا للطاعة، لا متثاقلًا عنها.
إن استقبال رمضان ليس مجرد تجهيز مائدة الإفطار أو تحضير قائمة الوجبات، بل هو استعداد روحي، وتخطيط إيماني، يبدأ من تهيئة القلب وتنقيته، واستشعار عظمة الشهر، والتوبة إلى الله، وعقد النية على الاستفادة من كل لحظة فيه. فمن أقبل على رمضان بقلبٍ مشرق، وروحٍ متلهفة، وجوارح مُستعدة، فليبشر بفيضٍ من الرحمة والمغفرة والبركات.

فلنبدأ من الآن بتصفية القلوب، وتجديد العهد مع الله، وفتح صفحة جديدة مع القرآن، حتى إذا هلّ الهلال، كنا في أتمّ الاستعداد لاستقبال أعظم شهور العام. اللهم بلغنا رمضان، وبارك لنا فيه، وتقبله منا بقبول حسن

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Related Posts